" لا أريد أن اصبح رساما، ساصبح كاتبا"
بهذه الجملة انتهت إقامتي في اسطنبول بعد شهر من التجوال العميق في ساحاتها و أزقتها و ظلمتها و كآبتها، تجولت بين قصور السلاطين و ياليات البشاوات و الأثرياء. لمست السوداوية و تلقّيت عدوانية الحزن و الأسى و التشتت بعنف رهيب. كرهت رائحة اسطنبول و أحببتها أيضا. ذكرني أورهان باموق و هو يحكي عن مدينته بطريقة شعرية حزينة بعيدا عن الشوفينية القومية و الزيف و النفاق التي عادة ما ينتهجها بعض الكتاب في رسم مدنهم. ذكرني بمدينتي وهران التي كلما كرهتها أحببتها و كلما رغبت في هجرانها اشتقت إليها. أن تكبر بين المتناقضات التي تغزو المدينة فهذه هي قمة الحزن و الأسى و إنها لتترك شرخا غير مفهوم في التعاطي مع المدينة. و قد فهمت كل كلمة بل كل حرف خطه أورهان باموق عن اسطنبول بصفة خاصة و تركيا بصفة عامة. أشدها ألما أن تجد نفسك تكبر بين متناقضين و لا تعرف إلى أيهما تنتمي هل إلى بقايا الحضارات العربية الاسلامية أم إلى عفاريت التغريب التي تهجم عليك من كل حدب و صوب. أن تعيش في مدينة تتجاذب فيها أشباح الماضي الأصيل و عفاريت الحاضر الغريب فهذا يعدّ من أصعب أنواع السوداوية.
تجولت أيضا في عوالم الكتاب و الشعراء السرياليين و الرسامين منهم نورفال، دانتي،اندريه بريتون،بول الوار،أنطوني أرتو و غيرهم من الأتراك و النمساويين. عرف أورهان كيف يستطرد بهم و بكتبهم و أفكارهم في كل موضع بحيث أنك تتعجب من الاتقان المتمرّس في وضع كل مربع أحجية في مكانها دون أن تفكر.
أعجبتني طفولته الشقية و مخاطبته لنفسه و لعقله، أيضا ذكرتني بطفولتي و بتلك الجلسات النفسية بيني و بين نفسي حين أتذكر ما قمت به من جنون طوال اليوم كعدم الامتثال لأوامر أمي في حمل شيء أو الذهاب عند الجارة لأتيها بشيء، صراخي حين أفقد شيئا، أشياء كثيرة صبيانية ذكرتني بها طفولة أورهان باموق و كيف أنه يسترجع حمقه و يستذكر تصرفاته المخزية في غرفته ليلا- لم تكن لدي غرفة خاصة- و لا يعود من حالة تأنيب الضمير إلا حين يكتب أو يرسم.
الترجمة أخذت بلبي و جعلتني أقرأ الرواية كاملة بصوت مرتفع مسموع و بتركيز و انتباه شديدين. كنت أمثل دور الحكواتي و أنا أنتقل بصوتي من نبرة إلى أخرى حسب ما يتطلب المشهد أو المقام. و هذا ما زاد في متعتي و نشوتي بلذة قراءة الرواية.
إلا أن هذا لا يمنع من ذكر بعض المآخذ في الرواية:
1- التطويل و التفصيل في وصف اسطنبول يصيبك بهشاشة العظام و بانتشار التجاعيد في بشرة وجهك
2- المغالاة في الحزن و السوداوية تجعلك تنام من حيث أنها تشبه ذلك الغول الذي نخوّف به أطفالنا فينامون
3- الفصل الأخير خيب ظني و النهاية تجعل ملامح وجهك باردة مثل تلك التي تبديها حين تسمع نكتة غير مضحكة البتة
و اخيرا يمكنني القول أن الشيء الرئيسي الذي استفدت منه من خلال قراءتي لرواية اسنطبول هو أن أكون أنا حتى و إن لم أكن أنا.
سهيلة سعدوني